قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً فَقَالَ ...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
يقول الله تعالى: ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) (العنكبوت: 1 – 3).
وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» البخاري.
الابتلاء طريق المرسلين والمؤمنين الأقوياء
عن مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً فَقَالَ: "الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا، اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ". رواه أحمد.
فنوح عليه السلام يُهدَد: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ (الشعراء: 116)، ولوط عليه السلام يقولون له: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾ (الشعراء: 167)، وإبراهيم عليه السلام يقول له أبوه: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ (مريم: 46)، ويلقَى في النار، ويؤمر بذبح ابنه، ويوسف عليه السلام تتآمر عليه امرأة العزيز، ويلقَى في غياهب السجن بضع سنين، وذا النون يلتقمه الحوت، وموسى عليه السلام يقول له فرعون: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ (الشعراء: 29)، ورسل القرية الواردة في سورة يس يقولون لهم: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (يس: 18)،.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فما كان ينتقل من محنة إلا إلى محنة طوال الوقت، ويشتد الأذى به فيُضرب حتى تُدمى عقبه في الطائف، وتُلقَى عليه القاذورات وهو ساجد عند الكعبة، ويتآمرون على قتله أو سجنه أو نفيه: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30)، ويُضرب في أُحد حتى تُشج رأسه وتُكسر رباعيته صلى الله عليه وسلم؛ حتى يخرج من الحفرة التي وقع فيها، فيقول: "لن يُفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم"، فيقول الله له: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران: 128).
وبالعموم تطول المواجهة بين الرسل ومن معهم ، حملة الدعوة الحق ، وبين أعدائهم ؛ حتى أنهم ليهتفون متى نصر الله:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214)، وقال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأنعام: 34).
هذا التأكيد القرآني يجعل المسلم يمضي في طريقه ، ثابت القدم ، هادئ النفس ، مطمئن الفؤاد ، لا يبالي بالمحن ، مهما أناخت بداره ، ولا يحفل بالشدائد ، وإن ألمَّت به من كل جانب، وإنما يمضي إلى غايته، وهو على يقين وثقة من أن نصر الله قريب، يمضي المسلم في طريقه ولسان حاله يهتف بصدق وإخلاص مناجيًا مولاه: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي".
يقول ابن القيم: إن المسلم إذا نجا من كل العقبات التي يضعها الشيطان على الطريق المستقيم الموصلة إلى الله، بقيت له عقبة يطلبه العدو عليها لا بد منها، ولو نجا منها أحد، لنجا منها رسل الله وأنبياؤه، وأكرم الخلق عليه، وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبته، أجلب عليه العدو بخيله ورجله، وظاهر عليه بجنده، وسلط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط، وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها، فإنه كلما جد في الاستقامة، والدعوة إلى الله، والقيام له بأمره، جد العدو في إغراء السفهاء به، فهو في هذه العقبة قد لبس لأمة الحرب، وأخذ في محاربة العدو لله وبالله .
- والابتلاء به يُعلم الصادق من الكاذب: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: 2).
- وبالابتلاء يتميز المؤمن من المنافق: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾
(العنكبوت: 10- 11).
- وبالابتلاء يتميز الخبيث من الطيب: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: 179).
- والابتلاء هو السبيل للعلم بالمجاهدين والصابرين من غيرهم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (محمد: 31).
- الابتلاء هو السبيل لاختيار الشهداء من بين المجاهدين وما أعظمها من منزلة ، الله هو الذي يجتبي لها من يشاء من عباده:
﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) (آل عمران: 140- 141).
- وبالابتلاء يرتقي المؤمن في الدرجات العلى في جنات عرضها السماوات والأرض: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 142).
استعينوا على مشقات الطريق وآلام الابتلاء بالصبر والصلاة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) (البقرة: 153- 154).
ومن كان الله معه كان معه كل شيء ، ومن فقد معية الله تنكر له كل شيء ، واعلموا أن من طال بلاؤه ثبت بناؤه ، والمبتلون والممتحنون هم رواحل هذه الدعوة المباركة.
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في ذكرى ميلاده نتنسم عبير سيرته ؛ فنجده قد مرت عليه كل صور الابتلاء التي ما نظن أنها قد اجتمعت على بشر، وهو منْ هو من قربه إلى ربه وحبه له ؛ ولكنه القدوة والرحمة ، فيا كل مبتلى من المسلمين بل ويا كل مظلوم من البشر ، هذا خير البرية قد ابتُلى فصبر فكانت العاقبة له ، وهو الذي رفع لواء تحرير البشرية من كل سلطان غير الله ، ورفع لواء الوقوف مع كل مظلوم في وجه كل ظالم حتى قبل نزول الرسالة عليه ؛ فهو بحق بالمؤمنين رءوف ، وهو بحق رحمة للعالمين ، جعلنا الله من المترسمين خطاه ، ورفع الظلم عن كل المظلومين.
ووفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه ، وسلك بنا وبكم مسالك الأخيار المهتدين ، وأحيانا حياة الأعزاء السعداء
وأماتنا موت المجاهدين والشهداء ، إنه نعم المولى ونعم النصير. والله أكبر ولله الحمد.